التشخيص العمراني للكبارية

تقرير لقاءات الكبارية

خلال لقائين رمضانيين جمعانا بأعضاء جمعية جيل ضد التهميش و عدد من متساكني منطقة الكبارية حاولنا فهم التطور الزمني للتهيئة العمرانية و آثارها الإجتماعية  و البيئية  على الجهة من خلال جمع ما تفرزه سرديات و معرفة المواطنين من معطيات وتوثيقها على خرائط تشاركية. فيما يلي حوصلة أولية لنقاش اللقاءين

Voir en plein écran

تقع معتمدية الكبارية على ضفاف سبخة السيجومي بولاية تونس و تعد 78319 ساكنا حسب التعداد العام لسنة 2014. تتكون المنطقة من ثمانية عمادات و تنتمي ترابيا إلى بلدية تونس كدائرة بلدية. و تعود نشأة العمران بالكبارية إلى بضع سنوات قبيل الإستقلال حيث يندرج تخطيطها  كمنطقة عمرانية ضمن برنامج توسع عمراني مهيكل أطلق عليه اسم أحياء “الملاجئ” يهدف للتخلص من الأحياء الكوخية المتاخمة لوسط المدينة و استبعاد سكانها من الفئات الهشة نحو أحياء قريبة من المصانع التي يشتغل أغلبهم فيها كيد عاملة. وقد انطلقت السلطات الإستعمارية في هذا البرنامج إثر فشلها في التصدي لظاهرة النزوح من الأرياف للمدن الكبرى و المتوسطة التي انطلقت منذ الثلاثينات  كنتيجة الاستعمار الفلاحي و تفكك النسيج الاقتصادي و الاجتماعي.

ظهرت أولى المساكن بالكبارية في فترة أولى انطلاقا من 1949 من خلال عمليات تحويل متساكني أكواخ فوضوية من جنوب مدينة تونس من بينهم جنود قدامى من تونسيين و مغاربيين شاركوا في الحرب العالميّة الأولى والثانية. وفي فترة ثانية عبر تحويل متساكني حي برج سيدي علي الرايس إثر هدمه و إخلاء متساكنيه قسرا ثم إيوائهم ب 50 منزل تقريباً قرب المدخل من جهة المحول. ثم توسع العمران من خلال تجهيز منطقة البطحاء وإضافة جزء من ما يمثل حالياً حومة المرشي. وتواصل تجهيز منطقة المرشي إلى حدود سنة 1967 لكي تمتد على المساحة التي هي عليها اليوم.

سنة 1968 تم بناء جزء جديد في الحي  أطلق عليه اسم  مساكن زرق العيون إشارة إلى البشير زرق العيون، وهو سياسي مقرب جدا من النظام و كان آنذاك نائبا عن دائرة تونس الأولى. في البدء كانت المساكن (أو المقاسم) تمسح حوالي 70م² كحد أدنى  لمسكن لائق حسب التخطيط العام لحي الكبارية و لكن و بعد تدشينها من قبل الحبيب بورقيبة، ارتأى زرق العيون إعادة تقسيمها إلى مساكن صغيرة جدا  لتصبح مساحة كل منها حوالي 35 متر مربع مقابل منحها مجانا للعائلات المعوزة شريطة الإذعان للنظام.

بالإضافة إلى سلطته على جزء من المساكن كان زرق العيون يستغل أرضا فلاحية تسمى بهنشير زرق العيون تمتد من حي ابن سيناء وصولا إلى المنتزه تنتج قمحا و زيتونا و العديد من الغلال و الخضار. كانت  الأراضي على ملك “ديوان إحياء وادي مجردة” (ديوان الأراضي الدولية حاليا) الّذي كان يضع الأراضي الدولية لمدة 20 سنة على ذمة عدد من المواطنين أصحاب النفوذ أو المحابات، ثم تتحوّل ملكيتها لمستغليها بعد انقضاء تلك المدة وبعد دفع معاليم الأداءات. و يقال أنه عندما استحوذ زرق العيون على أغلب تلك الأراضي شرع في تقسيمها وكراء بعضها وبيع البعض الآخر. فتحولت الأراضي الفلاحية تدريجيا  لأحياء سكنية.

<

Voir en plein écran

>

خلافاً على أحياء الكبارية الأولى أين كانت العائلات وافدة من برج علي الرايس ومن اللّبطية (بن عروس حاليا) نحو مناطق سكنية مقسمة و مجهزة، توافدت أسر المثاليث و الفراشيش و الجلاص في حي النور و قطنت بأكواخ من خلال الحوز. كان يسمّى حي النور بحي “القزادر” (القصدير)، قبل أن يتم إدخال الكهرباء خلال فترة مزالي إلى الحي.

كانت تمثل أحياء الكبارية القديمة في سنين النشأة الأولى أكثر أحياء المدينة نفاذاً للماء الصالح للشرب، حيث كانت المنازل مجهزةً بالحنفيات و شملها الربط بشبكات المياه الصالحة للشرب والكهرباء منذ سنة 1958 وقبل ذلك كان التزود من حنفيتين عموميتين. فضلاً عن ذلك، لم تشهد الكبارية قطاً إنقطاع المياه.


بالنسبة للتطهير كانت الشبكة ذات فاعلية في الكبارية القديمة، حيث أنه بالإضافة للربط العمومي، كان كل مسكن يحتوي على فتحة تطهير تساعد في تخفيف الضغط على الشبكة ممّا ضمن عدم حدوث فيضانات فيها.
فضلاً عن الموقع المرتفع نسبياً للحي القديم بالكبارية، فإن تقنية تعبيد الطرقات التي تم اعتمادها منذ التقسيم والتجهيز مكنت من تسهيل سيلان مياه الأمطار بصورةٍ لا تسمح بركود المياه مهما كان حجم التساقطات فيها.

حسب محضر الجلسة العامة التشاركية للبرنامج السنوي للاستثمار ببلدية تونس لسنة 2022، وقع تقييم حالة الطرقات بالكبارية على النحو التالي : 40 % من الطرقات في حالة سيئة و تتطلب التدخل. و من بين ملاحظات التقرير، يذكر أنه يوجد بعض الأماكن المنخفضة وأهمها 15 أكتوبر أين يوجد إشكاليات في تصريف مياه الأمطار.

بدأت تجربة البناء العمودي في جزء من حي البلدية (قرب البطحة) يطلق عليه تسمية “حي البلاصات” حيث ضم أولى المساكن الّتي تتكون من طابقين.

تكونت أحياء إبن سينا والمروج 2 التابعة لمعتمدية الكبارية في الثمانينات والتسعينات وشهدت المنطقة مع صعود هذه الأحياء تغيراً في التركيبة الإجتماعية حيث تزايد عدد الموظفين نسبياً مقارنةً بالعملة.

تواصل التوسع العمراني في الكبارية إلى حدود العقدين الأخيرين حيث تشكلت كل الأحياء الممتدة بين مدرسة الكبارية 1 والمعهد الثانوي حديثاً. حسب الإحصائيات الرسمية إرتفع عدد المساكن بين سنتي 2004 و2014 ب 4804 مسكن وازداد في المقابل عدد الأسر ب 3497 أسرة.

على إمتداد التطور الحضري للكبارية، إتسم التوسع العمراني بغياب الملكية العقارية، حيث مثل الحوز والكراء الوسائل المعتمدة للإستقرار في المعتمدية حسب المشاركين. أغلب المساكن في أحياء الكبارية غير مسجلة في دفتر خانة ولا تملك شهادة ملكية على خلاف بعض الأحياء كحي البلدية. 

يتواصل حالياً التوسع العقاري في الكبارية بشكليه النظامي والغير نظامي حيث تقرر في إجتماع للمجلس البلدي لبلدية تونس لسنة 2020 تخصيص قطعة أرض (أرض خويرة) تمسح 5646 متر مربع بحي بوحجر لإنجاز مشروع سكني لفائدة أعوان بلدية تونس. يذكر في محضر الجلسة أن رئيس لجنة الشؤون القانونية و العقارية و أملاك البلدية يؤكد أن “هذا المشروع يندرج في إطار حماية الرصيد العقاري للبلدية و مقاومة الانتصاب الفوضوي باعتبار أن ّ الأمر يتعلق برسم عقاري تم ّ الاستيلاء على جزء كبير منه من طرف المواطنين و من الوارد الاستيلاء على ما تبقى.”
كان المقترح يتضمن إنجاز إقامة تحتوي على عمارات ومشاريع تجارية بالطابق السفلي ومربض للسيارات يتم ّ التفويت في المساكن بثمن الكلفة، ويكون استغلال المحلات التجارية فيها بالأثمان المتعامل بها عن طريق بتّة عمومية بما أن التراتيب العمرانية للمنطقة تسمح بإنجاز بناءات عمودية ومختلف الأنشطة(UH4) ولكن في واقع الأمر تبين المداخلات أن مثال التهيئة لا يسمح بذلك لأن الأرض مخصصة لمساكن فردية لا لعمارات.

علاوةً على تجهيز بعض أحياء الكبارية بالبنية التحتية اللازمة، تمثلت مساهمة الدولة في إعداد منشآت عمومية.

حيث شيدت أوّل مدرسة ابتدائية في الكبارية بالتزامن مع بناء أولى المساكن سنة 1956، و أصبحت فيما بعد مركز تكوين. ثم بنيت المدرسة الثانية في مدخل الكبارية سنة 1957، أما المدرسة الثالثة التي بنيت هي مدرسة الأقواس (بين 1958 و 1960). المدرسة الرّابعة أنشئت في أراضي “اليهودية”. تعد الكبارية حالياً حسب الأرقام الرسمية لوزارة التربية لسنة 2020، حوالي 18 مدرسة ابتدائية موزعة جغرافياً كما تبينه الخريطة التفاعلية.

Voir en plein écran

و حسب الأرقام الرسمية تعتبر الكبارية من بين أكثر معتمديات ولاية تونس احتواءً للمدارس الإبتدائية العمومية إلى جانب الحرايرية وسيدي حسين.

التهيئة العمرانية والنشاط الإقتصادي

تشكل السوق في الكبارية أو ما يتعارف عليه المرشي نقطة محددة جغرافياً وإجتماعياً. أثناء تحديد الأماكن على الخريطة كان المشاركون في العديد من المرات يتخذون السوق كنقطة استدلال يحددون من خلالها تموقع باقي المنشآت.

في السبعينات، انتصب السوق القديم في البطحاء. ثم مع بناء المرشي الجديد، قامت الدولة بإجبار التجار على نقل أنشطة السوق وشراء نصب جديدة وذلك بإستعمال القوة وتحت إشراف أمني.

يذكر أحمد ساسي في مقال نشره في كراسات المنتدى عدد 4 أن السوق البلدي يمثل أحد أهم المرافق التجاريّة الحيويّة في المنطقة، حيث تقبل عليه أعداد كبيرة من الوافدين من مناطق مختلفة من ضواحي تونس العاصمة كالورديّة وجبل جلود والمروج.

تعتبر تهيئة السوق البلدي من بين مسؤولية بلدية تونس وتمثل هذه المهمة من أبرز الرهانات التي تداولتها المجالس البلدية المتعاقبة حيث أكد المجلس البلدي المنعقد يوم 6 جوان سنة 2010 برئاسة محمد الباجي بن مامي إعادة تهيئة أسواق العمران والملاسين وجبل جلود والكبّارية تهيئة تقطع مع الطريقة الكلاسكية. ظلت مسألة إعادة التهيئة مطروحة بالنسبة للبلدية حتى يومنا هذا. في البرنامج السنوي للإستثمار تم رصد 250000 دينار من التمويل الذاتي للبلدية سنة 2018 لدراسة إعادة تهيئة السوق، كما ذكر في محضـر اجتماع المجلس البلدي في دورته العادية الرابعة لسنة 2021 أنه تم تقدير تكلفة تهيئة وتوسعة السوق البلدي بالكبارية ب 750000 دينار. ومن بين التدخلات، لاحظ عضو من أعضاء المجلس البلدي أن “الإعتمادات المرصودة لتهيئة وتوسعة السوق البلدي بالكبارية والمقدرة بــ750ألف دينارا لا تغطي كلفة المشروع واستدل في ذلك بكلفة تهيئة أسواق بلدية أخرى على غرار السوق البلدي بالملاسين”.
بقي مشروع إعادة تهيئة السوق البلدي رهن التأجيل وذلك بسبب الظروف الاستثنائية التي مرّت بها البلاد والتي أثّرت سلبا على مدى التزام مقاولي الأشغال بالمواعيد والآجال المحددة بعد أن أصبحوا يلاقون عدة صعوبات في توفير العدد الكافي من العملة والسيولة اللازمة حسب رئيسة بلدية تونس.

أعلمنا المشاركون في اللقاءات أن النشاطات الاقتصادية الأساسية التي امتهنها سكان الكبارية خلال نشأة المنطقة تتمثل في العمل في شركة السكك الحديدية، في الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد، الإشتغال في المحاجر المجاورة ومعمل الجليز بجبل جلود ومعمل ستيل وجمع الكبار. أما في حي النور، كان العديد من المتساكنين يمتهنون السباكة.

بالنسبة للنساء في الكبارية كنّ يشتغلن في شركة ستيل ومعمل التمر التابع لها. كانت شركة ستيل والشركات العمومية الكبرى توفر مدخول محترم يضمن الحياة الكريمة لسكان الكبارية بالاضافة للامتيازات الاجتماعية التي تقدمها لهم في إطار دورها الاجتماعي.

بالرغم من تنوع الأنشطة التي امتهنها سكان الكبارية في البدء، نشهد حالياً نسبة بطالة تطال ما يفوق خُمُس شباب (15 – 29 سنة) الجهة. حيث أنه مشروع “سما دبي” تم تحويل جل الشركات بما فيها ستيل لتصبح في باب سعدون ثم تم التفريط فيها بعد ذلك في إطار سياسات الخوصصة التي شملت عديد المؤسسات العمومية كشركة الأنابيب. حيث كانت كل هذه الشركات تشغّل لعدد مهم من سكان الكبارية.

التهيئة العمرانية والمسألة البيئية

مثل المصب الذي كان يمتد على كامل المنتزه والذي تقلصت مساحته في ما بعد مجمعاً للفضلات المنزلية والصناعية. يلاحظ المشاركون أن الكبارية قديماً لم تكن تشكو من مشكل رفع الفضلات وكانت عمرانياً مقسمة بشكل يسمح بتركيز مناطق خضراء ولكن مع التوسع العمراني في الأحياء المتاخمة تزايدت المشاكل البيئية، حيث يذكر مثلاً خطورة التلوث الصناعي المتأتي من وادي الدم حيث تلقى فضلات مسلخ شركة اللحوم. يبقى التعامل مع هذا المشكل البيئي من قبل الدولة تعاملاً بعدياً وضرفياً أي يقتصر التدخل على تنظيف الوادي من حين لآخر.

بما أن النواة الأولى للكبارية كانت محاطة بالمحاجر جنوباً بالأراضي الفلاحية شمالاً، لذلك فقد توسع العمران جزئياً من خلال بناء عقارات سكنية على محاجر مما يمكن أن يشكل صعوبات تهيئة وتجهيز. يتأتى عنها مشاكل بيئية، من بينها مشكل تصريف مياه الأمطار ومشاكل التطهير.

تعاني التجمعات السكنية الحديثة في الكبارية من مخاطر التلوث البيئي أكثر من غيرها، حيث وفي غياب تهيئة عمرانية لائقة، تتمركز منذ ما يقارب سنة 2004 مجموعة من السكان ما بين المروج 2 وسبخة السيجومي في أكواخ بدون أي بنية تحية على أرض ملك للدولة، تحيط بها الفضلات من كل جانب ويشتغل العديد من قاطنيها في جمع النفايات القابلة للرسكلة. تسعى بلدية تونس لإستغلال هذه الأرض لإنجاز مشروع تثمين النفايات أو توسعة سوق السيارات.

برمجت الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات مركز تحويل للنفايات بالكبارية تحديداً بحي إبن سينا ولم يتم البدء في إنجاز المشروع لتواصل رفض المواطنين حسب تقرير الوكالة لسنة 2018. يعود سبب الرفض لما يمكن أن يسببه هذا المشروع من تهديدات لصحة المتساكنين والبيئة.
كما شرعت الوكالة في نفس الفترة في إنشاء مشروع الفرز الانتقائي للنفايات المنزلية من المصدر بالمروج 2 بفضل تمويل ألماني.

بالرغم من أن التخطيط الأولي للكبارية أتى كحل يقطع مع الأحياء الكوخية و العشوائية   لتكون من أول المناطق العمرانية المهيكلة و التي تتوفر فيها أدنى مقومات السكن اللائق من إنارة و ربط بشبكة المياه و الصرف الصحي و الخدمات العمومية، إلا أن السياسات المتعاقبة أعادت العديد من متساكني هذه المنطقة إلى نقطة البداية حيث أن مخططات التهيئة و التعمير  لم تكن قادرة على اتباع نسق الإنفجار الديمغرافي للعاصمة. و رغم تدخل الدولة البعدي لإعادة تهيئة بعض الأجزاء من الأحياء العشوائية مثل حي النور إلا أن ذلك كان غير كاف. بل واصلت الدولة في التخلي عن دورها الإجتماعي من صيانة و تكثيف للمرافق العمومية  الأساسية لتجعل بذلك منطقة الكبارية حبيسة انتماءها للأحياء المهمشة التي تشكل  حزاما صناعي ملوَّثا و ملوِّثا لسبخة السيجومي و العاصمة.

المنهجية المتبعة في التشخيص
ينبني هذا التشخيص على أساس المعطيات التي يقدمها المشاركون في اللقاءات إنطلاقاً من معارفهم وتجاربهم. ويقع التأكد من صحة المعلومات من خلال إعمال تقاطعاتٍ بينها. من ناحية أخرى، تتكامل هذه المعطيات مع مجموعة من المعلومات التي نجمعها من تقارير رسمية، محاضر جلسات، مقالات بشكل يكثف من المعارف المشتركة ويسهل إستيعاب كم هام من المعطيات بشكل واضح ومختزل ومسترسل. سيتم إثراء هاته الحوصلة تدريجيا مع تواصل اللقاءات و تجميع المعلومات.